المهندس عادل بصبوص
تركت الطابق الثالث الذي مكثت فيه قرابة ثلاثة عشر عاماً وانتقلت إلى الطابق الخامس حيث مكتب الوزير الذي يقصده ضيوف الوزارة دائماً وكثير منهم سفراء أجانب وممثلي جهات دولية واقليمية ... كان مكتبي الجديد يقابل غرفة الإجتماعات ويحاذي الممر المؤدي إلى مكتب الوزير ... كنت ألمح الوزير حينما يأتي إلى مكتبه صباحاً أو يغادره بعد الظهر .... ولتحقيق شيء من الراحة والخصوصية فقد كنت في معظم الأحيان أغلق باب المكتب كلياً أو جزئياً حتى لا أرى الداخلين إلى الطابق أو الخارجين منه ولا هم يرونني كذلك .... وقد كنت اتجنب قدر الإمكان زيارة الطابق الثالث أو حتى مجرد المرور فيه ... لم تعد لي صلات مع زملائي السابقين ممن عملوا معي سنوات طوال عندما كانت مديراً لبرنامج تعزيز الإنتاجية وقبل ذلك .... كنت ألزم مكتبي طوال الوقت ما لم أكن في زيارة أو مهمة ميدانية خارج الوزارة
كان علي أن أباشر مهامي الجديدة كمستشار مكلف بالتفتيش على مشاريع البرنامج السابقة وتقييمها ... مشاريع وأنشطة تم تنفيذها على مدى أكثر من عشر سنوات في مختلف مناطق المملكة وكلفت عشرات الملايين من الدنانير .... وضعت خطة لزيارة المشاريع الرئيسية والتي يضم بعضها عشرات المشاريع الفرعية .... كان الأمر يتطلب التنسيق مع الجهات الرئيسية المنفذة لهذه المشاريع وهي الجهات ذاتها التي عُهِدَ إليها بتنفيذ برنامج تمكين مناطق جيوب الفقر الذي قدمت استقالتي تعبيراً عن عدم الرضا والقناعة بجدواه وفاعليته
استمر عملي مستشاراً لمدة تجاوزت ثلاث سنوات قمت خلالها بزيارة مئات المشاريع وقد أتاح لي ذلك زيارة مختلف مناطق المملكة من شمالها وجنوبها ومن شرقها لغربها ... وقد قمت بإعداد تقارير تقييمية للمشاريع التي زرتها ... وكنت أقدم التقارير إلى الوزير مباشرة إضافة إلى نسختين اثنتين واحدة للأمين العام وأخرى لمدير البرنامج وكنت أُضمن التقارير وصفاً للمشاريع المنفذة وحالتها وقت الزيارة إضافة إلى مقترحات وتوصيات محددة لإعادة تشغيل أو تأهيل المتعثر أو المتوقف منها
كانت معظم المشاريع المنفذة تمثل مشاريع إنتاجية تتفاوت في أحجامها وفي كلف تنفيذها ... كانت تهدف إلى تنمية المناطق التي نفذت فيها وتوفير فرص عمل إضافية لأبنائها .... كانت المشاريع التي بلغت كلفة تنفيذ كثير منها عشرات الآلاف من الدنانير وبعضها مئات الآلاف تضم مزارع مختلفة ومصانع للألبان والمربيات ومعاصر زيتون وأسواقاً شعبية ومرافق سياحية ومشاريع أخرى متفرقة .... بالرغم من أنني لم أكن متفائلاً بالنتائج التي سوف أتوصل إليها ... إلا أن ما وجدته فعلاً من معدلات فشل وتعثر في هذه المشاريع قد فاق كل التوقعات
بعض المشاريع لم تكن موجودة تماماً وأخرى متوقفة لا تعمل .... نسبة قليلة وجدتها تعمل بنجاح على الرغم من أن غالبية المشاريع كانت تمثل أنشطة تتناسب وتتفق مع طبيعة المناطق المنفذة فيها .... قلة منها كانت تمثل مشاريع جديدة وغير مألوفة منها مشروعان اثنان لتربية النعام ... زرت كلا منهما وكنت أُمني النفس بمشاهدة النعام على الطبيعة لأول مرة ... إلا أن كلا المشروعين قد خيبا ظني فلم أجد ولو نعامة واحدة في أي منهما
كذلك قمت بزيارة المشاريع التي تم تنفيذها ضمن برنامج أُطلق عليه اسم "قدرات" وكان يهدف إلى بناء قدرات الجمعيات الخيرية والتعاونية من خلال منحها التمويل اللازم لإقامة مشاريع انتاجية بقيمة قد تصل إلى خمسين ألف دينار لكل منها وقد شمل البرنامج (152) جمعية نفذت كل منها مشروعاً انتاجياً وقد صدمت عندما وجدت أن حوالي خُمْس هذه المشاريع فقط يعمل بنجاح ويحقق أرباحاً أو يغطي نفقاته فيما البقية إما تعمل بخسارة أو متعثرة أو مغلقة
كانت النتائج مخيبة للآمال .... لكنها جعلتني أتأكد أن قراري بتقديم الإستقالة كان صائباً .... لم يكن فشل المشاريع ينطوي على فساد أو غياب للنزاهة بقدر ما كان يتعلق بالمنهجيات المتبعة وخبرات الجهات المنفذة والمستفيدة من المشاريع مما يعني في النهاية أن كافة الجهات المعنية بما فيها الوزارة والمنظمات غير الحكومية التي نفذت المشاريع لم تنجح في تطوير نموذج وطني للتنمية المحلية والريفية ... كان ذلك قبل أكثر من عقد من الزمان ولا أعتقد أن الحال قد تغير جوهرياً في هذه الأيام
لقد صاحب مغادرتي لمنصب مدير البرنامج توقفَ الامتيازات المادية والمعنوية التي كنت اتمتع بها .... بعضها تم بشكل فوري والبقية بشكل متدرج فقد تم سحب السيارة التي كانت مخصصة لاستعمالي كما تم إنهاء عضويتي في مجلس إدارة مؤسسة التدريب المهني وفي كثير من اللجان والهيئات الأخرى .... لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد استدعاني يوماً أمين عام الوزارة ... ليخبرني بأن "العين" على رواتب موظفي الوزارة ومكافآتهم وأن الحكمة تقتضي بأن نقوم بتخفيض الرواتب المرتفعة التي تتجاوز حداً معيناً وأن ذلك ينطبق علي شخصياً وقد كنت موظفاً بعقد يُجدد سنوياً وعلى زميلين آخرين يتقاضى كل منهما مكافأة مجزية إضافة إلى راتبه حسب نظام الخدمة المدنية .... فقلت له أوافق على ما ترونه مناسباً عطوفتك ... بناء على ذلك تم إلغاء عقدي قبل نهايته بستة أشهر وتوقيعي على عقد جديد تضمن تخفيض قيمة راتبي بمقدار (120) دينار في إجراء لا اعتقد أنه قد نُفِّذَ على أي شخص غيري في القطاعين العام والخاص ....... فيما تم تخفيض مكافأة كل من الزميلين الآخرين بقيمة حوالي (100) دينار لكل منهما ... لأعلم بالصدفة بعد حوالي تسعة أشهر ... أن قيمة مكافأة كل من الزميلين قد تمت إعادتها بعد شهر واحد فقط إلى ما كانت عليه سابقاً .... فيما تم رفض الاعتراض الذي قَدَّمْتُهُ لاحقاً بهذا الخصوص
لقد أتاح لي موقعي الجديد كثيراً من الحرية والمرونة وأراحني وأزاح عني الكثير من القيود والمحددات فقد كنت قبل ذلك أعمل ساعات طويلة يومياً دون أخذ أي إجازة أو استراحة على مدار العام ... أما في الموقع الجديد فقد أخذت العديد من الإجازات سافرت في واحدة منها إلى الديار المقدسة مع زوجتي لأداء العمرة ... كذلك سافرت من خلال أصدقاء ومعارف لتنفيذ دورتين تدريبيتين إحداهما لموظفين من وزارة التخطيط الليبية عقدت في مدينة الدار البيضاء في المغرب وأخرى لموظفين من سلطنة عُمان عقدت في مدينة كوالالمبور في ماليزيا
كذلك أتاحت لي الظروف الجديدة التفكير في إنشاء منزل جديد بعد أن أصبح منزلي في حي نزال التي أصبحت شديدة الإكتظاظ صغيراً على عائلتي وغير كافٍ لاحتياجاتها ... فقمت بشراء قطعة أرض في منطقة المقابلين مساحتها (750) متراً وأنشئت عليها منزلاً جديداً بمساحة تعادل ضعف مساحة منزلي القديم ... كنت حريصاً على أن يكون المنزل كبيراً وواسعاً ... فهو لن يكون مكان اقامة لي ولزوجتي فقط بل مقصد أبنائي وبناتي من تزوج منهم ومن سيتزوج لاحقاً ... ومكاناً يرتع فيه ويلعب دون حسيب أو رقيب وبحرية تامة أحفاد وحفيدات هم الحصاد الأغلى لأيام العمر وتعب السنين
لعلها المصادفة وحدها أو حظي الجميل أن يكون اسم الشارع المحاذي لبيتنا الجديد هو "شارع العطر"...... شارع قصير طوله لا يتجاوز المئة متر ..... لا يفصله أكثر من خمسين متراً فقط عن شارع الحرية الممتد من تقاطع الإرسال إلى دوار الجمرك ..... نعم حرية وعطر .... كم أنا محظوظ كل صباح عندما اغادر المنزل لبعض شؤوني.... فأستنشق عبير العطر وأستمتع بنسائم الحرية
عندما اشتريت قطعة الأرض .... لم أنتبه لاسم الشارع .... وكنت محظوظاً أن مالك الأرض وهو من خارج المنطقة لم ينتبه أيضاً .... فلو طلب حينها زيادة على سعر الأرض الباهظ أصلاً كنت سأقبل مذعناً .... لم أنزعج لاحقاً عندما أدركت أن سعة الشارع هي فقط 15 متر وليست 16 متر كما هي على المخططات .... وسامحت من كل قلبي من تسبب في ذلك
أحيانا ومن فرط فرحي وإعجابي بالاسم .... أفكر أن أذهب إلى دائرة التسمية والترقيم في أمانة عمان لأشكر من نَسَّبَ بالتسمية ومن وافق عليها .... لا بد أنها صبية حالمة لها ذائقة حساسة للشعر والموسيقى والجمال ..... قد أفعلها يوماً .... وحتى ذلك الحين أقول لها ولأمانة عمان ... شكراً .... كبيرةً سعةَ الشارع مكررةً عدد عابريه.... فأسماء الشوارع كأسماء أبنائنا وبناتنا ... هي هوية وصورة وعنوان
يومياً وقبل أن أغادر الشارع ألقي نظرة خاطفة على اللافتة المثبتة على مدخله لأتاكد أن أمانة عمان لم تُغَيِّر الاسم ..... أحيانا أنزعج بعض الشيء أن قلة فقط يعرفون هذا الشارع واسمه الجميل... ولكن سرعان ما أعود فأحمد الله على ذلك ... فنشر الاسم على نطاق واسع قد يغري بعض ضعاف النفوس أو أصحاب الهوى .... للتأثير على الأمانة للإستيلاء على الاسم وإعطاء الشارع إسماً غيره .... هل هذا ممكن لا أدري ..... ولكن في جميع الحالات .... أتمنى على المعنيين في أمانة عمان .... وبينهم معارف واصدقاء .... إن حدث هذا لا سمح الله .... أن يُتبعوا الاسم الجديد للشارع بعبارة " العطر سابقاً"